مقالات

من بذرة إلى وقود: قصة الجاتروفا في السودان

د. مازن إسماعيل محمد

في ظل التحديات البيئية والاقتصادية التي تواجه العالم، برز نبات الجاتروفا (*Jatropha curcas*) كأحد الحلول الواعدة لإنتاج الوقود الحيوي، خاصة في الدول ذات المناخ الجاف مثل السودان. هذا النبات، الذي ينمو في الأراضي الفقيرة ويتحمل الجفاف، يُعد خيارًا مثاليًا لتوليد طاقة نظيفة دون التأثير على الأمن الغذائي، إذ لا يُستخدم في التغذية البشرية ولا ينافس المحاصيل الغذائية في الزراعة.

قبل تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية في السودان، بدأ مركز أبحاث تابع لأكاديمية السودان للعلوم والتكنولوجيا في إجراء تجارب علمية على زراعة الجاتروفا واستخلاص الزيت الحيوي منها. وقد ركزت هذه الأبحاث على ملاءمة النبات للبيئة السودانية، وإمكانية استخدام مياه الصرف الزراعي في الري، وتطوير تقنيات استخلاص الزيت بكفاءة عالية، إلى جانب تقييم الجدوى الاقتصادية لإنشاء سلسلة إنتاج محلية للديزل الحيوي. كانت هذه المبادرة تهدف إلى تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، وتوفير مصدر دخل للمجتمعات الريفية، والمساهمة في مكافحة التصحر.

الزيت المستخرج من بذور الجاتروفا يحتوي على نسبة عالية من الدهون، تصل إلى 40–45%، ويُستخدم في إنتاج الديزل الحيوي الذي يمكن تشغيل محركات الديزل به مباشرة أو بعد خلطه بنسبة تصل إلى 20% مع الوقود التقليدي. يتميز هذا الوقود بانخفاض انبعاثاته الضارة، مثل ثاني أكسيد الكبريت وأول أكسيد الكربون، كما أنه أكثر أمانًا في النقل والتخزين مقارنة بالوقود الأحفوري. ولا يحتاج النبات إلى مياه كثيرة أو تربة خصبة، مما يجعله مناسبًا للأراضي غير المستغلة زراعيًا.

التجارب الإقليمية، خاصة في مصر، أثبتت جدوى زراعة الجاتروفا في مناطق مثل قنا وسيناء باستخدام مياه الصرف الصحي المعالج. وقد أظهرت النتائج أن الهكتار الواحد يمكن أن ينتج حوالي 3000 كجم من الوقود الحيوي سنويًا، مقارنة بمحاصيل أخرى مثل فول الصويا الذي ينتج حوالي 375 كجم فقط. هذه التجارب تعزز إمكانية تطبيق النموذج في السودان، إذا توفرت الظروف المناسبة من دعم مؤسسي واستقرار بيئي.

رغم التحديات التي تواجه السودان حاليًا، فإن العودة إلى هذه الأبحاث وتطويرها يمكن أن يشكل خطوة استراتيجية نحو الاستقلال الطاقي والتنمية المستدامة. الجاتروفا ليست مجرد نبات، بل فرصة حقيقية لتحويل الأراضي القاحلة إلى مصدر للطاقة النظيفة، وتحقيق توازن بين البيئة والاقتصاد، في إطار رؤية علمية تستند إلى الابتكار المحلي والموارد الطبيعية المتاحة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى