
— **من المختبر إلى الصحراء: كيف يقود التعاون العلمي ثورة الطاقة النظيفة؟**
د. مازن إسماعيل محمد
يشهد العالم تحولًا متسارعًا نحو الطاقة النظيفة، مدفوعًا بتعاون غير مسبوق بين الجامعات ومراكز الأبحاث من جهة، والشركات الصناعية من جهة أخرى. هذا التعاون لا يقتصر على تطوير التقنيات، بل يشمل اختبارها وتحسينها وتكييفها مع الواقع المحلي، خاصة في البيئات القاسية مثل الصحارى، التي تتحول تدريجيًا إلى منصات واعدة لتطبيقات الطاقة المتجددة.
وقد برزت على الساحة العالمية مشاريع تجريبية تجسد هذا التعاون، حيث تتلاقى الرؤى الأكاديمية مع الخبرات التطبيقية. ففي بريطانيا، جمع مشروع HyDeploy بين جامعة كيلي وشركة Cadent Gas لاختبار إدخال الهيدروجين في شبكة الغاز الطبيعي بنسبة 20% دون تعديل البنية التحتية، مما يمثل خطوة عملية نحو تقليل الانبعاثات. وفي الولايات المتحدة، تقود وزارة الطاقة مشروع H2@Scale بالشراكة مع مختبرات وطنية وشركات مثل Shell، لتطوير سلسلة متكاملة للهيدروجين من الإنتاج إلى الاستخدام الصناعي والنقل. أما السويد، فقد أطلقت شركة Northvolt مشروعًا بالتعاون مع Volkswagen لإنتاج بطاريات مستدامة تركز على إعادة التدوير وتقليل البصمة الكربونية، في حين يجسد تحالف الطاقة الشمسية الدولي نموذجًا عالميًا للتعاون بين الحكومات والجامعات والشركات لدعم مشاريع بحثية تهدف إلى تحسين كفاءة الطاقة الشمسية وتخزينها في الدول النامية.
ولضمان استدامة هذا التعاون، تتبنى الدول والمنظمات سياسات تحفيزية تشمل التمويل المشترك والحوافز الضريبية، كما هو الحال في برامج Horizon Europe وInnovation Fund. كما يتم إنشاء مراكز الابتكار وحاضنات التكنولوجيا مثل Fraunhofer Institute في ألمانيا، التي تعمل كنقطة وصل بين البحث والتطبيق الصناعي. وتساهم التشريعات البيئية الصارمة، مثل قانون الطاقة النظيفة في كاليفورنيا، في دفع الشركات نحو الابتكار، بينما تدعم برامج التعليم والتدريب المشترك مثل Erasmus+ وMarie Skłodowska-Curie Actions تكوين جيل من الباحثين والمهندسين القادرين على العمل في بيئات متعددة التخصصات.
هذا النموذج العالمي من التعاون يمكن تكييفه وتطويره ليخدم البيئات الصحراوية، التي تتميز بموارد طبيعية غنية مثل الشمس والرياح، لكنها تواجه تحديات مناخية قاسية. ومن بين الحلول الممكنة: استخدام الطاقة الشمسية لإنتاج الهيدروجين الأخضر عبر التحليل الكهربائي باستخدام مياه معالجة، وتصميم وحدات تخزين حرارية تعتمد على الرمال أو الملح المصهور، إلى جانب تطوير تقنيات مقاومة للحرارة والجفاف بالتعاون بين الجامعات المحلية وشركات الطاقة.
وقد شهدت المنطقة العربية بالفعل مشاريع واعدة في هذا السياق، أبرزها مشروع نيوم في السعودية، الذي يهدف إلى إنشاء مدينة تعتمد بالكامل على الطاقة المتجددة، باستخدام الهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية والرياح. كما يبرز مشروع نور للطاقة الشمسية في المغرب، الذي يستخدم تقنية الطاقة الشمسية المركّزة في بيئة صحراوية قاحلة، ومشروع الهيدروجين الأخضر في مصر، الذي يستغل المساحات الصحراوية والسطوع الشمسي العالي لإنتاج طاقة نظيفة.
وفي أوروبا، تتواصل الجهود في الاتجاه ذاته، حيث أُطلق مشروع NortH2 في هولندا لإنتاج الهيدروجين الأخضر باستخدام طاقة الرياح البحرية، ومشروع Hybrit في السويد لإنتاج الفولاذ باستخدام الهيدروجين بدل الفحم، مما يقلل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة تصل إلى 90%. كما يبرز مشروع H2Med الذي يربط فرنسا وإسبانيا والبرتغال بخط أنابيب لنقل الهيدروجين الأخضر، ومشروع TSO Hydrogen Backbone في ألمانيا لتحويل شبكة الغاز الطبيعي إلى شبكة لنقل الهيدروجين، إضافة إلى مبادرة SolarPower Europe التي تدعم مشاريع الطاقة الشمسية في جنوب أوروبا، حيث الإشعاع الشمسي مرتفع، وتعمل على تطوير تقنيات التخزين والربط الذكي بالشبكة.
إن هذه المشاريع، سواء في أوروبا أو العالم العربي، تقدم نماذج ملهمة يمكن تكييفها لتناسب السياقات المحلية، خاصة في الصحارى. ويكمن التحدي الحقيقي في بناء منظومة متكاملة تجمع بين البحث العلمي، التطبيق الصناعي، والدعم المؤسسي، لضمان انتقال فعّال نحو مستقبل طاقي نظيف ومستدام.
—