مقالات

حين يضيء الكركم: تجربة منزلية تكشف سحر العلم الخفي

د. مازن إسماعيل محمد

في عالم يمتلئ بالمؤثرات البصرية العابرة، ظهر على مواقع التواصل الاجتماعي تحدٍّ علمي أثار فضول الكثيرين: تفاعل الكركم والماء والملح تحت ضوء الفلاش، الذي ينتج عنه توهّج أصفر لامع يذهل العين. قد يبدو للوهلة الأولى مجرد خدعة ضوئية مسلّية، لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. هذه التجربة تسلط الضوء على ظاهرة علمية تُعرف باسم الفلورية، وهي قدرة بعض المركّبات على امتصاص الضوء ثم إعادة إصداره بطول موجي مختلف، ما يمنحها توهجًا مميزًا.

العنصر الفعّال في هذه التجربة هو الكركمين، وهو المركب المسؤول عن اللون الأصفر في الكركم. عند تعرضه للضوء العالي الطاقة – مثل فلاش الهاتف – يمتص الكركمين هذا الضوء، وينتقل إلى حالة طاقة أعلى. بعد فقدان جزء من هذه الطاقة داخليًا، يعيد إصدار ما تبقى على شكل فوتونات مرئية نراها كتوهّج فلوري مدهش. الملح في الماء لا يقل أهمية، إذ يعمل على تحسين ذوبانية الكركم وتوزيع الجزيئات، مما يزيد من وضوح التوهج وسط السائل.

بعيدًا عن الإبهار البصري، قدّم هذا التحدي فائدة تعليمية حقيقية، إذ جعل العلوم في متناول الصغار والكبار على حد سواء. فهو يحفّز حبّ الاكتشاف، ويعزز المهارات التحليلية والملاحظة، ويفتح الباب أمام التفكير النقدي والتجريب الشخصي. ومع ذلك، وجب التنويه إلى أن شرب هذا الخليط ليس فكرة جيدة، إذ أن الإفراط في تناول الكركم، خاصة لدى من يعانون من مشاكل في الكبد، قد يؤدي إلى نتائج صحية غير محمودة.

تُعد ظاهرة الفلورية من الظواهر الدقيقة التي تقع في قلب الكيمياء والفيزياء. فهي مرتبطة بالانتقالات الإلكترونية داخل الذرات والجزيئات، حيث تمتص المواد طاقة ضوئية وتُصدرها بشكل فوري تقريبًا، خلال جزء من مئة مليون من الثانية. وهناك العديد من الأمثلة على مواد فلورية بطبيعتها مثل الفلوريت، الكالسيت، بعض المعادن النادرة، فضلًا عن الأصباغ العضوية المستخدمة في الأبحاث الطبية والبيولوجية.

إن ما يجعل هذه الظاهرة مبهرة حقًا هو توقف التوهج بمجرد توقف مصدر الضوء – على عكس الفسفورية التي تحتفظ بالتوهج لبعض الوقت. هذه السمة الخاصة تجعل من الفلورية أداة قوية في التعليم، وفي استخدامات علمية مثل تصوير الخلايا، وتصميم أجهزة الكشف، وحتى في تطبيقات فنية وجمالية.

بذلك يمكن القول إن ترند الكركم لم يكن مجرد موجة على السوشيال ميديا، بل نافذة صغيرة أطلّ منها الناس على علمٍ مدهش كان مختبئًا في زوايا المطبخ، ومن هنا تنبع عظمة العلم عندما يخرج من قاعات الدرس إلى تفاصيل الحياة اليومية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى