
“اليوريا تحت المجهر: هل نغذي الأرض أم نلوثها؟”
د. مازن إسماعيل محمد
بالنظر إلى التحديات البيئية المتزايدة التي تواجه العالم اليوم، يبرز استخدام اليوريا في الزراعة والصناعة كقضية تستحق التوقف والتأمل. فعلى الرغم من كونها خيارًا اقتصاديًا وفعالًا كمصدر للنيتروجين، إلا أن آثارها البيئية تتطلب معالجة دقيقة وتخطيطًا مستدامًا يوازن بين الفوائد الاقتصادية والمخاطر البيئية.
تُعد مشكلة التخثث في المسطحات المائية من أبرز التحديات الناتجة عن تسرب اليوريا أو نواتج تحللها، مثل النترات والأمونيا، إلى الأنهار والبحيرات. هذا التسرب يؤدي إلى نمو مفرط للطحالب، وانخفاض مستويات الأوكسجين المذاب، ونفوق الكائنات المائية، مما يخلّ بالتوازن البيئي. كما أن المياه الراجعة من العمليات الصناعية والزراعية غالبًا ما تحتوي على تركيزات عالية من اليوريا، ما يهدد جودة المياه الجوفية ويساهم في تراكم النيتروجين في التربة بشكل غير متوازن.
ولمواجهة هذه التحديات، تتجه العديد من الجهات إلى تطبيق استراتيجيات معالجة ورصد بيئي مستمر، تشمل المعالجة الأولية والثانوية للمياه الراجعة باستخدام تقنيات مثل الترسيب والأكسدة الحيوية والأغشية النانوية، بالإضافة إلى مراقبة جودة المياه والتربة عبر أجهزة استشعار وتحاليل دورية. كما يُعد التطبيق الذكي لليوريا، من خلال تقنيات الزراعة الدقيقة ومثبطات النترجة، خطوة مهمة نحو تقليل الانبعاثات وتحسين كفاءة الاستخدام.
ولا تقتصر التأثيرات البيئية لليوريا على المياه والتربة فحسب، بل تمتد لتشمل انبعاثات غازات الدفيئة، حيث يؤدي تحللها إلى إطلاق ثاني أكسيد الكربون وأكسيد النيتروز، وهو غاز ذو تأثير قوي على الاحتباس الحراري. كما أن الاستخدام المكثف لليوريا قد يؤدي إلى اختلال التوازن الميكروبي في التربة وزيادة ملوحتها، مما يؤثر سلبًا على إنتاجية المحاصيل والتنوع البيولوجي. ويُضاف إلى ذلك خطر تسرب النترات إلى المياه الجوفية، وما يترتب عليه من آثار صحية، خاصة على الأطفال، مثل متلازمة الطفل الأزرق.
من جهة أخرى، قد يؤدي الإفراط في استخدام اليوريا إلى الإخلال بالنظم البيئية، ونمو مفرط للطحالب والنباتات غير المرغوبة، مما يهدد الأنواع الأصلية ويقلل من التنوع البيولوجي. كما أن التفاعلات الكيميائية التي قد تحدث بين اليوريا وبعض المركبات مثل الكلور أو المعادن الثقيلة قد تسفر عن تكوين مركبات سامة تؤثر على البيئة والصحة العامة.
وللحد من هذه التأثيرات، تبرز مجموعة من التدابير التي يمكن اعتمادها، مثل تحسين إدارة التسميد باستخدام تقنيات الزراعة الذكية، ومثبطات النترجة، ودمج اليوريا مع مواد عضوية لتحسين امتصاص النيتروجين. كما أن معالجة المياه الراجعة باستخدام تقنيات بيولوجية وكيميائية، وإعادة استخدامها في الري أو التبريد الصناعي، يساهم في تقليل الضغط على الموارد المائية. ويُعد تحسين خصائص التربة من خلال الإدارة المتكاملة وزراعة محاصيل تغطية خطوة مهمة نحو تقليل الاعتماد على اليوريا.
وفي سياق التطوير التقني، يُمكن تصميم تركيبات بطيئة التحلل من اليوريا لتقليل الفاقد والانبعاثات، كما يُمكن استخدامها في إنتاج الهيدروجين كبديل نظيف، بشرط احتجاز النيتروجين وعدم إطلاقه في البيئة. وتبقى أنظمة المراقبة الذكية والتقييم الدوري للأثر البيئي أدوات ضرورية لضمان استدامة الممارسات وتعديل السياسات وفقًا للنتائج الفعلية.
إن التعامل مع اليوريا لا ينبغي أن يكون مجرد مسألة تقنية أو اقتصادية، بل يجب أن يُنظر إليه من منظور بيئي شامل يراعي صحة الإنسان واستدامة الموارد الطبيعية. فبين الفائدة والمخاطر، يبقى الخيار الأمثل هو الاستخدام المسؤول والمبني على العلم والتخطيط طويل الأمد.