مقالات

قلق الأمهات

بقلم 🖋: وصايف القحطاني

لا شيء يحير عقلي مثل الغرائز وإعجازها في البشر وكيف تدفعهم بلا وعي وبأي شكلٍ وأي عرقٍ وأي دينٍ وأياً كان لون تلك الغريزة وماهيّةِ ظلالها. إنني أبحر في تأمل تأثيرها حدَّالارتباك وكيف أنها تُدين الإنسانَ في لحظة حماسةٍ أو تَرَاخَي وكأنها تثبت أنّ ثمّة شيئاً فيك ليس منك فتسلكهُ وتنهمر على طريقتها فتشعر أنها أفكار غير واعيةٍ تتقارب بها في العيش؛ ولا سيّما إذا وثب الحديث لطُهر الغرائز، الغريزة اللي دفعت بالطفولةِ حمل الدمى وتقمص الأدوار، فتدرك أنها نابعةً من جذورِ الأنثى حدّ الكهولة؛ فأشعر أن العاطفة الممتلئة في هذا العالم أصلها نابع من غريزةِ الأمومة القابعة في جوف كل أنثى تنجبها الحياة لهذا العالم المليء بالسوداوية، تأتي إليه الطفلةُ مليئةً بالدفء الذي يغمر يابسة البشر وكأن كل شيء ينتمي لها؛ فتجد الكبير ينثني والصغير يتلذذ بقربها، وتمضي الأيام تزيد في عمرها بتدفق عاطفتها حتى تبلغ ذروة شبابها المزدهر بظلال من قربها، فتجدني أتظلَّل متخفية من ذنوبي تحت ثياب أختي العطوفه وتارةً أهرع فزِعةً من إقبال الكربات عليّ لأتدثر بجلباب أمي وكأنني سكنت برائحتها فآمنت أن لا خوف يمتد لي في سكناها.
ما هذه القوة التي تصنعها هذه الغريزة؟
لم أختر أن أكن بهذه القوة أنها تقبل عليّ وتتسلل لي، فتمنحني الكَبْوة لارتفع ثانيةً وتهبني التجارب كذلك فـترقّقَ داخلي حتى يكاد أن يعبر من خلاله كل شي ؛ فقريني ليس شريكاً فقط بل إنّه يتصلب في قلبي كعلامةَ أنني بحبهِ تسيدت الصبابةَ وأنا في الحقيقة سيدة الصبابة وابنتها؛ لم أستطع أن أستقصي نهاية هذا الحب وأحصره داخل هذه الغريزة العظيمة فلا سلطة عليه ولا حدود له؛ فأجدني امنح جميعي له فيكتنف بداخلي حتى يرتوي من عذوبةِ هذه العاطفة الغزيرة المعطاءة بلا مردود؛ فتسمو بي لمرتبةٍ أعظم.
يُنبت روح بداخلي تصدع بنبضات تتردد مع قلبي فتبدأ رحلة الأمومة الحقيقية، فتجدني أغفو بعينٍ واحدة وأفزع بكلتا العينين.
أشعر وكأنه انبثق للحياة تاركاً شطراً منه داخلي لا زال حَيًّا استشعر به بهجته وشَجَنه؛ أتناوله لأول مرة واحتضنه تحت جناحي فتستهل خلايا عقلي وتنتعش روحي وكأنها لم تذق طعم المسرّة من قبل، فشجنت نفسي وتراقصت من شدة الحبور والانتشاء حتى بلغت رائحته كل جزء مني، أنها تسكنني وتسجل عقد انتماءً لي مدى الحياة.
إنه يَشْرَعُ ماضٍ في طريقه والحقيقة أَنَّهُ لا يبرح من مقام قلبي حتى يعود إليه مرةً أخرى؛ يتضاعف في داخلي ولا يفيض عن حدودي.
يا الله أنني أتساءل عن تجلّي هذا الخليط من اللّين والقوة، وعن هذا التهديد اَلْخَفِيّ الذي أعيشه عندما يأكل أو يلعب أو ينام ، أنني أتنفس بقلق وأتجرّع الاحتمالات على وجه الدوام وعلي قافية نفس الشعور أصبو إلى حضوره وتمايله وازدهاره أمامي.
يالله أنني منذ اللحظة التي أثمرت نفسي هذا الجذلِ وأنا في ابتهالك لا أتوانى عن رحمتك ورعايتك.
يالله وإن لم تعجزك الأمنيات فالتمني في رجائك طمأنينة أنّ لا يكف جناح الأمهات ولا أن يموت قلقهنَّ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى