مساحة حرةمقالات

ذاكرةُ الهَجْر

كنت تقول: الحب الذي أبدؤه لا ينتهي.
تُحدثني عن حبيباتك السابقات، وأنت في داخل بئر التذكر، فتلمعُ عيناك وكأنمها قد استعادتا لحظةً أولى، لا يمكنك حذفها، ولا تقيد شعورك إزاء حضورها الطاغي، ثمَّ بعدها بثوانٍ قليلة تتحول عيناك فتبدوان باهتة للغاية وكأن الحُزن قد كشطهما بالقوة، بلا أي اعتبار لحساسيتك ،ومشاعرك المرهفة، ومع ذلك كُنت في ضبابية مع السرحان فتعمد لتقبيل خدودهن العشبية الندية كما لو كنّ روح الطبيعة في مدارات مخيلتك، تتوقف أثناء هذه الرحلة التي تجاوزت الواقع، عند أكثر الأزهارِ جمالاً متسمرًا، تفكر فيما لو كان لون الزهرة هذا لائقًا لشعرِ حبيبتك الأولى، أو لو اخترت لونًا آخر يتناسب بشكل أفضل مع خصل شعرها السوداء و الكثيفة، وبينما تتنقل بعينيك سارحًا في الأزهار تنكزك ذكرياتك بطرفها الحاد مع حبيبتك الثانية فتنهمر وتسترسل بالكلمات ، وأنت تَحمل بوادر حنين على وجهك فتتأمل لو أن بمقدورك أن تَراها ولو كان هذا في حُلمك، ثم تتقلبُ مع موجةِ أفكارك فتعيد صياغةَ ما ظهر من جوفك قائلاً: أنا لم أسامحهن للآن، أرجو من الله أن يتذوقن الخسارةَ الفادحة التي تذوقتها حين عُزلت فجأة ،وتمَّ إبعادي بسبب مشاعري المُرهفة، وحبي المستديم الذي لم يتقبله أحد، ثمَّ كعادتك كنت تنظر نحوي في انتظاري لأُربت على شعرك العسلي اللامع أسفل بقعةِ الشمس الذهبية الدافئة، لكني لم أعد قادرة على مواساتك أكثر، حتى مع مرور هذه السنين الطويلة التي بقيت فيها بجانبك، ومع حقيقة أنك كنت تخبرني بأنني مختلفة، وبأنني واسعة كحقلِ الذرة الذي كُنت تجري فيه في أيام طفولتك، وحنونة كذراعي جدتك القوية التي حمتك من كُل فصول العذاب الذي عشته في منزل والدك، لكنك مع كل ذلك، كنت عالقًا في الماضي، وأنا أدرك تمام الإدراك، بأنني سأكون حبيبتك الثالثة ،في الوقت الذي أعلن فيه لك بأني راحلة، لم تُدرك بعد بأنك كنت عاشقًا لمن يَهجرك فقط، لم تُدرك أن هذا كُله كان بسبب شعورك المتأصل الذي جعلك تفتقد أمك فقط حين غادرتك، تساءلتُ مرارًا: لماذا لم تذرف دموعك مطلقاً؟! أو تودع جدتك حين انتقلتَ إلى المدينة بإرادتك، جدتك التي أحبت حياة الريف وبقيت متعلقة في حقل الذرة ،و بيتها الصغير القريب من أحد الوديان ، أنت فقط تحب الهجر، تجلس منتظرًا قدومه لتخبره بأنك متأكد بأنه قادم لا محالة، ثم تحدثه عن القصة القديمة للشخص الذي غادر حتى يجيء، لقد أحببتَ أن تبقى مهجورًا لِتتذكر، كي لا تنسى ولهذا هجرتَ كل من يتقرب إليك، وأحببت دائمًا ذلك الذي هجرَك.
🖋 رغد محمد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى