الليل في ضوء القمر

بدور الحارثي – الطائف
عرف الفنان الفيكتوري جون غريماشو (1836-1893) بمشاهده الحلمية التي صور فيها الليل بجمال يحبس الأنفاس. تصور معظم لوحاته الليل في ضوء القمر منعكساً على منظر فسيح؛ طرقات طويلة لا تبدو لها بداية ولا نهاية، وسماء ضبابية ملبدة بالشفق، وشوارع مبللة بماء المطر، وأشجار خريفية سقطت أوراقها على الطريق، يتسلل ضوء القمر من بين أفرعها وينعكس نوره على الطرقات. لقد كان يمزج الألوان التي يرسم بها بمواد غريبة مثل القواقع التي كان يطحنها ويخلطها بالألوان والرمل، لذلك نشعر أن لوحاته تكاد تنطق بالحياة.(2)
تأخذ لوحاته الناظر من عالمه لعالم الفنان الغارق في السكون والتأمل، الأشخاص يظهرون بأحجام صغيرة في لوحاته بالنسبة للسماء المتناهية في الكبر، والطرقات المتسعة بلا نهاية. في لوحته “تحت ضوء القمر في ليلة ممطرة” نجد أنفسنا نتساءل، هل تسير المرأة في طريقها أم أنها تنتظر أحدا أمام سور البيت الذي يبدو لها بعيد المنال؟ من نافذة البيت يتسلل ضوء خافت دافئ، لكن الطريق في الخارج مغمور بضوء القمر الدافئ أيضا، نحن لسنا متأكدين إزاء هذه اللوحة هل البيت أكثر دفئا أم الطريق المحمي بالسماء الحنونة.
وفي المدينة، لا يمكن للمرأة أن تجد نفسها وحدها في الطريق كما في القرية، فهناك الكثير من الغرباء الذين يحمل كل منهم حكايته، لكن يجمعهم السير تحت سماء نفس المدينة الضبابية التي يغطي ضوء القمر فيها على نور المصابيح، ليخلق مشهدا كما الأحلام. هكذا رسم جون غريماشوا المدينة في الليل؛ سماء تحتفظ بزرقتها ومدينة مضاءة بنور المصابيح الصفراء والبرتقالية، وماء المطر الذي يغطي الأرض، يعكس كل تلك الأضواء والألوان في مزيج فانتازي خلاب. تشعرنا لوحات غريماشو بشجن وحزن رقيق، لكنها تهدئ من روعنا وقلقنا عندما نراها، فيتسلل إلينا صدى هذا الكون الآسر داخلنا.